بيت لحم 24-12-2025 وفا– وعد الكار
بدت بيت لحم مختلفة هذا الصباح؛ فالمدينة التي أنهكتها الحرب والحصار، واستنزفتها أعوام من الركود والخسارة، استعادت شيئًا من نبضها المفقود.
انطلقت المجموعات الكشفية في استعراض رسمي، سارت بخطى ثابتة من شارع النجمة باتجاه ساحة المهد، تتقدمها الألحان الكشفية والأعلام، في مشهد أعاد إلى الذاكرة صورا غابت لعامين متتاليين بفعل الحرب.
تزيّنت شوارع المدينة وساحاتها، وعادت الأضواء لتنعكس على حجارتها العتيقة، وكأن بيت لحم تحاول أن تقول إنها قادرة على النهوض من جديد رغم كل ما مرّت به. فبعد أعوام عجاف انقطعت فيها السياحة، وهي الشريان الرئيس الذي يغذّي المدينة وسكانها، عادت أجواء الفرح لتملأ ساحة المهد، وعادت الحياة لتدبّ في المكان الذي اعتاد أن يكون قبلة أنظار العالم في مثل هذا اليوم من كل عام.
توافد المواطنون من داخل المدينة وخارجها للاستمتاع بعروض الكشافة، وبدت مشاعر الشوق واضحة على الوجوه. فهذه الأجواء، التي حُرم منها الناس لعامين، لم تكن مجرد احتفال عابر، بل استعادة لجزء من الذاكرة الجماعية، ولحالة اجتماعية افتقدها الأهالي طويلًا.
تقول أم عيسى، وهي سيدة خمسينية جاءت من الناصرة: إنها حرصت على الوصول إلى مهد السيد المسيح لتعيش أجواء الميلاد بعد انقطاع قاسٍ، مؤكدة أن بيت لحم تمثل لها معنى روحيا خاصا، وأن العودة إليها في هذا التوقيت تحمل شعورًا بالفرح والامتنان معًا.
أما ميريان، وهي شابة ثلاثينية جاءت برفقة أطفالها، فتقول: إنها أرادت أن يعيش أبناؤها أجواء الميلاد التي غابت عنهم في السنوات الأخيرة، معربة عن أملها في أن يحمل العام الجديد الخير والفرح لبيت لحم خاصة، ولفلسطين عامة. وتضيف أن هذه اللحظات، رغم بساطتها، تمنح الناس طاقة للاستمرار، وتعيد إليهم شيئًا من الإحساس بالحياة الطبيعية التي افتقدوها طويلًا.
وسط هذه الأجواء، وبين أصوات الموسيقى الكشفية وضحكات الأطفال، تبدو المدينة وكأنها تحاول أن توازن بين الفرح والوجع، بين الاحتفال وذاكرة الحرب القريبة. فبيت لحم، التي تنهض اليوم كطائر الفينيق من تحت الرماد، لا تزال تحمل آثار سنوات صعبة انعكست على اقتصادها، وعلى حياة آلاف العائلات التي ارتبطت أرزاقها بالقطاع السياحي.
وعلى بُعد أمتار قليلة من ساحة المهد، وفي أحد أزقة البلدة القديمة، تتخذ هذه الصورة العامة بُعدا أكثر إنسانية وعمقًا. هناك يقف الشاب الثلاثيني أنس عبيّات خلف طاولة صغيرة، يواصل قلي الحلوى الفلسطينية المعروفة بـ"الحلبي"، ويغمسها في القطر الساخن، مراقبا حركة المارّة والزوار.
قبل الحرب، كان أنس يعمل داخل أراضي الـ48، ويعيل أسرته بدخل ثابت، لكن اندلاع الحرب قلب حياته رأسا على عقب، ليجد نفسه فجأة في صفوف العاطلين عن العمل. وازدادت معاناته مع وجود طفل من ذوي الإعاقة في أسرته، يحتاج إلى أدوية وعلاج شهري تتجاوز كلفته 300 دولار، وهو مبلغ لم يعد قادرا على تأمينه في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وعجز وزارة الصحة عن توفير هذه الأدوية في المرحلة الحالية.
أمام هذا الواقع القاسي، قرر أنس ألا ينتظر، وألا يستسلم. تعلّم صناعة حلوى "الحلبي" بنفسه، دون معلم أو خبرة سابقة. أجرى تجارب عديدة، وعدّل المقادير، وخاض محاولات لم تنجح، حتى توصّل إلى وصفة ذات جودة عالية، تعتمد على الطحين والسميد والماء، تُقلى على النار ثم تُغمس في القطر.
يقول أنس: إن هذه الحلوى لم تكن مجرد مشروع صغير، بل محاولة للبقاء، وللحفاظ على كرامته وإعالة أسرته بما تيسّر.
ويضيف أنه فضّل أن يشعل شمعة بدلًا من أن يلعن الظلام، وأن يكون له دخل متواضع على أن يكون بلا شيء.
ويعبّر عن أمله في أن تعود بيت لحم إلى سابق عهدها، وأن تعود السياحة، ويعود العمّال إلى أعمالهم داخل أراضي الـ48. كما يوجّه رسالة إلى الشباب بعدم الاستسلام للظروف، وخلق أي فرصة للعمل مهما كانت بسيطة، مؤكدًا أن العمل عبادة، وأن المحاولة بحد ذاتها شكل من أشكال الصمود.
قصة أنس ليست حالة فردية، بل هي جزء من مشهد أوسع تعيشه المدينة.
ففي الوقت الذي تعود فيه أجواء الاحتفال إلى ساحة المهد، لا تزال بيت لحم تعاني حصارا وإغلاقات وحواجز أثّرت بشكل مباشر في حركة المواطنين، وفي الاقتصاد المحلي، وفي القطاع السياحي الذي يشكّل ركيزة أساسية لحياة سكانها.
وفي هذا السياق، قال رئيس بلدية بيت لحم ماهر قنواتي: إن رسالة الميلاد هذا العام تنطلق من مهد السيد المسيح، وتحمل معنى روحيا وإنسانيا عميقا، مستشهدا بالقول: "قومي استنيري، لأنه قد جاء نورك". وأكد أن بيت لحم، رغم ما مرّت به من ظروف قاسية، قادرة على النهوض من جديد، وأن عودة أجواء الميلاد تشكّل رسالة أمل إلى العالم بأن هذه المدينة لا تزال حاضنة للسلام ومتمسكة برسالتها الإنسانية.
وأوضح قنواتي أن البلدية عملت خلال الفترة الماضية على إعادة تحريك القطاع السياحي من خلال مبادرات هدفت إلى استعادة ثقة الزائرين وتحريك عجلة الاقتصاد المحلي، مؤكدًا أن عودة الاحتفالات، حتى وإن جاءت في ظروف استثنائية، تمثل دفعة معنوية كبيرة لأهالي المدينة ورسالة صمود في وجه كل محاولات العزل والتهميش.
من جهته، قال وزير السياحة والآثار هاني الحايك: إن هناك تفاؤلا حذرا بعودة الروح تدريجيا إلى القطاع السياحي، خاصة مع بدء توافد أفواج سياحية أجنبية إلى مدينة بيت لحم، رغم أن نسب الإشغال الفندقي لا تزال متدنية ولا تحقق أرباحًا تُذكر.
وأشار إلى أن إعادة الاحتفالات بأعياد الميلاد ستنعكس إيجابا على صورة بيت لحم أمام العالم، باعتبارها مدينة قادرة على استقبال زوارها، وتحمل رسالة سلام رغم كل التحديات.
ولفت إلى أن الوزارة تولي اهتماما خاصا بتشجيع السياحة الداخلية، من خلال حملات تعريفية وجولات داخل مدن المحافظة وبلداتها، أسهمت في إعادة تسليط الضوء على المواقع الدينية والتاريخية وتحريك السوق المحلي ولو بشكل محدود، مؤكدًا في الوقت ذاته أن هذا التحسن لا يزال هشًا في ظل الواقع السياسي والأمني القائم.
بدوره، أشار محافظ بيت لحم محمد أبو عليا إلى أن المحافظة تتعرض لاستهداف الاحتلال والمستعمرين المتواصل، من خلال الاقتحامات والمداهمات والاعتقالات، ومنع المواطنين من الوصول إلى أراضيهم الزراعية، وفرض الإغلاقات والبوابات الحديدية، إضافة إلى الاعتداءات المتكررة، ما يفاقم الأوضاع الاقتصادية والإنسانية ويجعل أي تعافٍ بطيئا ومليئا بالتحديات.
أما على الصعيد الأمني، فقد أكد مدير عام الشرطة في محافظة بيت لحم استكمال الاستعدادات لتأمين احتفالات أعياد الميلاد، عبر خطة أمنية ومرورية شاملة تهدف إلى ضمان سلامة المواطنين والزوار، وتسهيل حركة التنقل خلال الفعاليات الرسمية والشعبية، بما يعكس صورة المدينة المنظمة والآمنة في هذا الموسم الاستثنائي.
وبين ساحة المهد التي امتلأت بالفرح، وزقاق البلدة القديمة حيث يعمل أنس بصمت، تتجسّد صورة بيت لحم اليوم؛ مدينة تحاول أن تستعيد توازنها، وأن تصنع من كل لحظة فرح مساحة للأمل، ومن كل مبادرة فردية خطوة نحو الحياة. فالميلاد هذا العام ليس مجرد احتفال ديني، بل هو تعبير عن إرادة مدينة وأهلها في النهوض من جديد، والإيمان بأن الضوء، مهما كان خافتًا، قادر على شق طريقه في العتمة.
ــ
إ.ر


