أهم الاخبار
الرئيسية تقارير وتحقيقات
تاريخ النشر: 25/07/2025 09:13 م

يوم "عادي" في غزة...

وداع وتشييع عدد من الشهداء في ساحة مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة (وفا)
وداع وتشييع عدد من الشهداء في ساحة مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة (وفا)


غزة 25-7-2025 وفا- سامي أبو سالم

إلى ما تبقى من مجمع الشفاء الطبي المدمر بفعل صواريخ الاحتلال الإسرائيلي، وصل رجل بوجه شاحب، كست الغبار شعره وشاربه، يحمل كيسا أبيضا على ظهره.

اقترب منّا وسألنا إن كنّا صحفيين، وطلب منّا أن نقوم بتصوير أحد الشهداء ونشر صورته على وسائل الإعلام، لعل عائلته تتمكن من التعرف عليه، سألناه أين الشهيد؟ فأجاب ها هو. أنزل الكيس عن ظهره، وفتحه كاشفا عن هيكل عظمي؛ جمجمة وأسنان بيضاء، وبضع عظام، وأعشاب برية جافة، وبقايا ملابس مخضبة بالدم المعجون بالرمل، بعد أن ظننا كل الظن أن داخل الكيس طحينا!

وقال، إنه عثر على الشهيد في منطقة الواحة شمال غرب جباليا شمال قطاع غزة. فقد ذهب صباحا للبحث عن طحين لأطفاله، ليجد كومة اللحم والعظم هذه ملقاة على الأرض، مرجحا أن يكون قد استشهد حديثا، فنهشته الكلاب والتهمته قبل أن تفوح منه رائحة الموتى.

وأشار لنا أن هناك شهداء آخرين لكن لا يستطيع أحد الوصول إليهم بما في ذلك طواقم الإسعاف، وكل من يحاول يلقى مصيره المحتم وهو "الموت"، كما قال إن المصابين ينزفون حتى الموت هناك.

أغلق الرجل الكيس وطوى فوهته وحمله على كتفه ثانية ومشى حائرا، ربما أخذ بنصيحتنا أن يوثق الجثمان في المستشفى قبل نشر صورته.

هذا واحد من المشاهد التي يجدها المواطنون في مجمع الشفاء الطبي، أو فيما تبقى منه من مبنى العيادات الخارجية الذي تم استصلاحه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الجرحى والمرضى، وتوثيق أعداد وأسماء الشهداء، بعد أن دمر الاحتلال أكبر مجمع طبي في القطاع.

في المجمع، تم توزيع غرف العيادات الخارجية بين غرف عمليات وعناية حثيثة، ومبيت للحالات الطارئة، بينما الساحة الخارجية في الهواء الطلق زودت بخيمة لاستيعاب ما يمكن استيعابه من الضحايا.

في هذه الساحة، ليس من اليسير التحرك بحرية، حيث تعج بالشهداء والجرحى الملقون على الأرض، وبمركبات الإسعاف والسيارات الخاصة التي ينقل فيها المواطنون ضحايا قصف الاحتلال الإسرائيلي في مناطق متعددة، أو من قتل المجوّعين المنتظرين مساعدات غذائية شمال غرب غزة.

جلبة وزحام، ومواطنون بعضهم يبحث عن فقيد لهم اختفى منذ يومين وأكثر، جاؤوا يبحثون عنه بين رفاة الشهداء أو في عداد الجرحى، وآخرون يحملون عينات دم للفحص يسألون عن المختبر، وآخر ينادي من يحمل فصيلة دم (O+) للتبرع لأبيه. امرأة تسأل عن اسم زوجها بين قائمة الشهداء، وأم تتفحص الجرحى بدقة، علّ ابنها يكون بينهم، وطفل يحمل هاتفا، يعرض صورة شقيقه الذي خرج لجلب طحين ولم يعد، علّ أحدا يجيبه.

قرب الخيمة التي نصبت حديثا جثمان لشهيد في كفن أبيض بلاستيكي كُتب عليها "مجهول"، بانتظار من يتعرف عليه، وبين الفينة والأخرى تصل نسوة وشبان أنهكهم الجوع والحر في حالة من الهلع، يبحثون عن أحبائهم.

وصلت امرأة مع فتى، تبحث عن ابنها الآخر، حاول الفتى فتح الكفن البلاستيكي، لكنها أزاحته جانبا، وجلست على ركبتيها، قبضت على السحّاب بيد مرتجفة وفتحته بقوة، الوجه مشوه لم تستطع التعرف على هويته، لكنها وبعد أن كشفت عن أسنانه قالت: "ليس هو".

سألناها عمن تبحث. أجابت: "ذهب شمالا مع أصحابه ليأتي لنا بكيس طحين ولم يعد". سألناها عن اسمه. لم تجب وشقت طريقها نحو ثلاجة الموتى علّها تجد ضالتها.

إلى جانب جثمان الشهيد مجهول الهوية، تجمع عدد من المواطنين حول أحد الشهداء، بعضهم يصرخ وآخر يحاول التهدئة من روعه، وآخر تنحى جانبا، لم تقو ركبتاه على حمله، تهاوى ببطء وستر وجهه بكفيه وبكى بصمت.

سألنا أحد الأقارب، أجاب: هذا الشهيد فادي الغفري، أب لسبعة أطفال، ذهب لجلب الطحين، قُتل فادي جائعا وبقي أطفاله جوعى أيضا.

وتتوالى الأخبار على الهواتف المحمولة، عشرات الشهداء والإصابات من الجوعى برصاص الاحتلال شمال غزة، ثم وصلت مركبة إسعاف، ثم أخرى وسيارة مدنية تحمل زهاء 5 ضحايا، منهم من فقد ساقه وآخرين لم نعلم إن كانوا شهداء أو فاقدي الوعي، بينهم رجل ستيني يسأل عن ابنه غير آبه بنصف قدمه المحفورة.

الضحايا لا يصلون مجمع الشفاء الطبي فرادا، بل بالعشرات، ويجد المسعفون والطواقم الطبية صعوبة في التعامل مع هذا الكم من الضحايا، المواطنون يحملون الجرحى والشهداء ويركضون على عجل في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أحد المسعفين هبط يحمل طفلتين على ذراعيه، تبعته امرأة مصابة لكنها وقعت أرضا ولم تستطع إكمال السير.

وقفنا عند مدخل مجمع الشفاء، لنجد في الخارج حركة نشطة في الاتجاهين، من الجنوب نحو الشمال وبالعكس. أسراب من المواطنين قادمون من الشمال، بعضهم يحمل طحينا، وآخرون لم يسعفهم "الحظ" فعادوا يحملون حزمة حطب من الأشجار المجرفة، بعد أن بلغ سعر الكيلو الواحد 8 شواقل، أي ما يعادل [2.4 دولار]، وآخرون عادوا بخفي حنين بعد قضاء ساعات طوال أو أيام من الانتظار، لكن حالفهم الحظ هذه المرة بأن عادوا أحياء.

يجد الكثير من المواطنين حرجا في عدسات الكاميرا، فهم لم يعتادوا أن تكسر نفوسهم يوما وأن يجدوا أنفسهم يستجدون رغيف الخبز، أو كيس الطحين، لكن العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فرض عليهم حياة أقسى مما كانوا يتوقعون.

قابلنا مواطنين إثنين بدت وجوههما مغبرة، وثيابهما متسخة بالتراب والطحين، يحمل كل منهما كيسا على كتفه، أحدهما نازح من بيت حانون واكتفى بقول إن اسمه نعيم "لليوم الثالث أحاول التقاط كيس طحين، واليوم نجحت".

مشى نعيم مسافة تمتد لـ14 كيلو مترا ذهابا وإيابا من أجل كيس طحين، لإعالة 14 فردا من عائلته، هو وأشقائه وأطفالهم، وشقيقته التي استشهد زوجها وأطفالها.

أشار نعيم إلى أنه وأشقائه يتوزعون على أكثر من نقطة لجلب الطحين، حتى إن بدأ إطلاق النار لا يصابوا جميعهم أو يستشهدوا، وإن فشل أحدهم في جلب الطحين، ربما ينجح الآخر.

لكن نعيم لا يخشى الموت عند مراكز المساعدات، يبتسم ويقول "يقتلوني وأنا أحاول جلب كيس طحين أفضل من الموت جوعا. عائلتي لم تأكل منذ ثلاثة أيام".

حمل ذوو الشهيد الغفري جثمان ابنهم وذهبوا في رحلة بحث مضنية عن قبر لمواراته، فيما بقي الشهيد "المجهول" بانتظار من يتعرف عليه، بينما في الخارج شبان مستمرون في الزحف شمالا للمنطقة الحدودية بانتظار شاحنات المساعدات بمحاذاة قرية هربيا قرب بيت لاهيا شمال القطاع.

ومنذ الثاني من آذار/ مارس الماضي، تواصل إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، سياسة تجويع ممنهج لنحو 2.4 مليون فلسطيني بغزة، عبر إغلاق المعابر بوجه المساعدات المتكدسة على الحدود، ما أدخل القطاع مرحلة المجاعة وأودى بحياة كثيرين.

ومنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يرتكب الاحتلال الإسرائيلي جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة، تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلا النداءات الدولية كافة وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.

وخلفت الإبادة نحو 203 آلاف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين بينهم أطفال.


ــــ

س.س/ر.ح

مواضيع ذات صلة

اقرأ أيضا