غزة 7-8-2025 وفا- سامي أبو سالم
وأنت جائع، يغزو رأسك ألم يحيط بجبهتك وكأن أحدهم لف رأسك بإكليل شوكي لا تستطيع التخلص منه ولا يجدي معه نفعا أي نوع من الأدوية غير المتوفرة في المستشفيات ولا في الصيدليات.
وأنت جائع، يجتاحك دوار يلازمك ليل نهار، يفقدك تركيزك، وتسأل نفسك هل نقص الكربوهيدرات في الدم أم نقص البروتين، أم الشعور بالإهانة والذل، أم نقص في كل شيء؟ يقيدك هذا الدوار ويقيد تفكيرك وليس فقط حركتك.
وأنت جائع، تشعر أن هناك فجوة في بطنك بحاجة لردم، فراغ غريب وكأن المعدة والأمعاء معلقات بخيط رفيع ستندلق مع أي حركة، ما يجبرك على التحرك ببطء، حتى لو وددت الالتفات، فإنك تبطئ من المشي وتلف جسدك كله بدلا من أن تدير وجهك يمينا أو يسارا.
لا تستطيع السير بحرية، ولا تفكر ما الطريق الأقرب أو الأقل زحاما، بل في الطريق التي تشعر فيها أن ساقيك المتثاقلتين لا تزالان تعملان، تشعر وكأن أحدا يربط أسفل ساقيك بحبلين مثبتين في إطاري تراكتور، بسلاسل حديدية ثقيلة.
تمشي وليس هناك كفاية من الطاقة كي ترفع قاع قدميك عن الأرض ولا لخطوة بنفس المقياس الذي اعتدت عليه. طول الخطوة يقصر، فالطريق التي تقطعها في 100 خطوة ستقطعها في 200، والمسافة بين قدمك والأرض تقصر، ويغبر حذاؤك أكثر من ذي قبل.
ترى أشخاصا تعرفهم فتشيح بوجهك وتتجاهلهم لأنه لا طاقة لديك للسلام والسؤال عن أحواله وأحوال أهله، رغم أنك لم تقابلهم منذ أسابيع أو أشهر أو سنوات، وربما جارك قبل النزوح.
وانت جائع، تصطدم ببائع الحطب، الذي يبيع قطع أثاث من منزل مدمر، لا تجادل في ثمن الكيلو الواحد الذي بلغ 8 شواقل (2 دولار)، وبدلا من شراء 10 كغم تشتري 3 لأنها أخف وزنا، تمشي دون أن تدفع ثمن الخشب، ينبهك البائع، فتعطيه ورقة نقدية وتمشي، فينادي عليك مرة أخرى لتستلم الباقي. ثم تندم أنك اشتريت لأنها ثقيلة جدا، وكأنك تحمل شجرة كينا ضخمة.
ترى أمامك قصصا تستحق النشر، لكنك تحجب عنها لأنك لا تستطيع أن تحيكها في رأسك قبل كتابتها، وليس لديك المقدرة على محاورة من تراه يحمل هما كالجبال فوق جوعه.
وأنت جائع، لم تعد الحواس الخمس تعمل مثل ذي قبل، وكأن خللا ما ضربها، فحاسة الشم تزداد قوة، يلتقط أنفك كل شيء، وتربط الرائحة مباشرة بالطعام حتى وإن لم تكن كذلك. أحيانا تكون رائحة بلاستيك محروق، أي أن هناك نار، وهذا مؤشر أن هناك طبخ، وربما تتوجه عيناك للجهة القادمة منها الرائحة وعيناك تبحلقان وأذناك تنصتان.
وحاسة السمع تتضاعف، لم تعد تطيق صوت وقوع أي صوت. يزعجك رنين الهاتف النقال لينبهك بوجود رسالة قصيرة، تخرج الهاتف من جيبك فيسقط من يدك، تلتقطه عن الأرض فيقع مرة أخرى، تقرأ الخبر العاجل وتدسه في جيبك قبل أن يسرقه لص يلتقطه ويختفي كالنعامة. بعد قليل تتذكر أن هناك خبر عاجل، لكن لا تذكر ما هو، تُخرج الهاتف من جيبك مرة ثانية وثالثة كي تتذكر.
تنجح في التقاط إشارة إنترنت، تتوالى الرسائل الحبيسة، وصوت إشارات وصول الرسائل سيتسبب لك بصرع، تكتم الصوت ولا تنظر إلى الرسائل لأن "الزغللة" في العينين باتت لا تطاق، صحيح أن الرؤية "جيدة"، لكن غابت التفاصيل ومنها حروف الرسائل على الهاتف. حتى وإن قرأتها فلم يعد هناك متسع في الذاكرة الذهنية لتعرف ماذا يجري في غزة، ولم يعد هناك حيل لمتابعة آخر الغارات أو آخر إحصائية شهداء أو كم مجوع قتلته قوات الاحتلال وهو يحاول التقاط طحين.
وأنت جائع، تمشي في الشارع يمينا ويسارا تحملق في البسطات التي نفد ما لديها، إلا قليل، قنينة زيت طبخ، قراطيس ورقية تحتوي على غرامات من السكر بعد أن بلغ ثمن الكيلوغرام أكثر من 100 دولار، قراطيس صغيرة بها بضع توابل، مقدار ملعقة صغيرة في كل قرطوس، والمتوسط 5 شواقل للملعقة.
تذكرت ابنتي ليلى، ذات الستة أعوام، التي تشكل هاجسي الأكبر في المجاعة، لم تعد لثتها حمراء قانية مثل ذي قبل، بل شحب لونها، ووجهها أيضا، باتت أقل حيوية، لا تغني ولا تقلد عارضات الأزياء وبنات جيران النزوح. باتت كئيبة ولم تعد تتحمس لكتابة الإملاء. تطلب ليلى طلبات "تعجيزية"، حبات الشوكولاتة التي اعتادت عليها، تتفحص البسطات يمينا ويسارا علك تجد ما تسطع أن تشتري لكن لا شيء مما تبغي، تذهب لبسطة كانت متميزة ببيعها "هذه الملذات"، عددا من أصابع الحلويات والشوكولاتة التي باتت نادرة، لكن هاجم اللصوص وبلطجية بوجوه سافرة صاحبها، ولم يتركوا سوى رفوفا فارغة.
وصلت ملجئي، كان العدس بانتظارنا. كنا نأكله بعد "اشتياق" في فصل الشتاء، يجاوره ما كان يسمى مكملات (الفجل والزيتون والبصل وجرجير وغيرها)، لكنه بات الآن من لزوميات الحرب. طبخته زوجتي سها على حطب صعب الاشتعال، فاستخدمت أكياسا بلاستيكية، وصنعت "فتة" بما تبقى من فتات الخبز اضطر من لا يحبه أن يأكل، راقبت سرعة الأيادي في الامتداد الصينية، باتت أسرع بكثير من ذي قبل، وكأن كل فرد يريد أن يضمن انه أكل أكثر من الآخر، كانت وجبة بين الغداء والعشاء، فلا وجبة بعدها. أعرف تماما أنه لم يشبع أحد، فأكملوا الفراغ المتبقي بالماء. وقامت سها بتثاقل لتجلي الأواني لكنها لم تستطع وآثرت الاستراحة قليلا لتتخلص من الدوخة. انتهت من الجلي بعد أن خبأت قطعة خبز لليلى التي تصحو من النوم تتألم من الجوع.
غيّر الجوع سلوكيات كثيرة، فلم يعد أطفالي الأربعة يطيقون بعضهم، ولا يطيقون والديهم اللذين لا يستطيعان توفير الطعام، ومعظم ما يفتشون عنه أو يصادفونه على منصات التواصل الاجتماعي هو الطعام فقط، وجبات اللحوم وإعلانات المطاعم هذا بعد متابعتهم لكرة القدم وغيرها. وإن تحدثوا مع بعضهم، فجل حديثهم عن ارتيادهم "أيام زمان" للمطاعم.
وأنت جائع، حتى الساعة البيولوجية تغيرت، والحمام لم يعد سوى للبول فقط. وتنام ليلى بجانب أمها التي تضع بجانبها دواء مهدئ ليجبرها على النوم حتى الصباح كي لا تصحو منتصف الليل "جائعة".
حتى طريقة التفكير تغيرت، فلم نعد نرسم تصورا لكريم ابن الثانوية العامة ماذا سيدرس بعد نجاحه، فلا امتحانات ولا حياة أكاديمية أصلا، ولا نفكر في مستقبل الأولاد، بل لم نعد نفكر في أعداد الشهداء وآخر المجازر، ولا حتى في هاجسي الأكبر "النزوح القسري"، ولم أعد أتبع صفحة الناطق بلسان قوات الاحتلال الذي ينشر أوامر الذل والاهانة "النزوح"، كل ما يهمنا أصبح "ماذا سنأكل غدا؟ هل سنجد الطحين؟ كم سيكون ثمن الكيلوغرام؟ هل سنجد سكر يمدنا بالطاقة كي نستطيع المشي؟ هل الطعام غدا معكرونة أم عدس؟ هل متوفرة في السوق؟
لكن لم كل هذا وأنت تعمل ويصلك راتب شهري في البنك، ولماذا لم تخزن طعاما احتياطيا؟ لم يعد الراتب يكفي عندما لا تستطيع الحصول على "كاش" إلا بعد دفع 52% من "العمولة"، وأسعار عشر أضعاف، والأهم، لا يوجد ما تشتريه، فبات معدل المصروف اليومي 100 دولار أميركي "كاش" أي متوسط 200 دولار يوميا على الأقل. أما الطعام والطحين الاحتياطي فسد رمقنا لمدة 3 أشهر، لكن امتد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة للشهر الخامس.
ما يضاعف القهر لديك، هو أنك تجوع بفعل فاعل وليس بسبب كارثة طبيعية، بفعل الاحتلال، بفعل مرتزقة وجنود قدموا من الأميركتين وأفريقيا وآسيا وأوروبا بألوان مختلفة، ليستولوا على أرضك ويعيشون عليها ويأكلون مما تنتج، ثم يمنعون عنك الطعام ثم يتحكموا ماذا يدخل في جوفك!
كل ما قرأناه عن الجوع أو ما عرضته السينما من أفلام والمسلسلات التلفزيونية التي تناولته تبين أنه مجرد ابتذال ساذج مقارنة بالواقع، لقد عجز، وسيعجز الكتاب والمخرجون أن ينقلوه للقارئ والمشاهد رغم نجاحاتهم التقنية والفنية. أما الجوع الحقيقي فلن يفهمه أو يشعر به إلا من زُج فيه.
ـــــ
س.س