- قصة أطول مكالمة استغاثة من قلب غزة الجريحة تجسّد معاناة أطفال فلسطين تحت الاحتلال وتضحيات العاملين الإنسانيين في ظل حرب الإبادة
رام الله 9-9-2025 وفا- بلال غيث كسواني
لم يكن العاملان في المجال الإنساني، رنا الفقيه وعمر علقم، يدركان أن مكالمة هاتفية عابرة ستتحول إلى رمز عالمي للإنسانية وسط حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ نحو عامين.
الفقيه، العاملة في المقر الرئيسي لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بمدينة البيرة، كانت على الطرف الآخر من الخط حين اتصلت الطفلة الغزية هند رجب، تستنجد بعد أن أبيد عدد من أفراد عائلتها داخل مركبة في حي تل الهوا جنوب غرب مدينة غزة في كانون الثاني/ يناير 2024.
حاول عمر، وهو متطوع في غرفة العمليات المركزية في الهلال الأحمر، وزميلته رنا، منسقة غرفة العمليات المركزية سابقًا، طوال دقائق طويلة تهدئة الطفلة وزرع الأمل في صوتها وسط دوي القذائف والانفجارات وزخات الرصاص، لكنهما بقيا يسمعان أنفاسًا مرتجفة تتلاشى حتى انقطع الخط.
وهند، التي كانت في الخامسة من عمرها، عثرت عليها عائلتها داخل المركبة التي مزقها الرصاص بعد 12 يومًا من استشهادها مع جثامين ستة من أقربائها.
وقدّرت منظمة Forensic Architecture أن جيش الاحتلال الإسرائيلي أطلق 335 طلقة على المركبة التي أمضت فيها هند ساعات على الهاتف مرعوبة وسط زخات الرصاص، وهي تتوسل بمسعفي جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني أن يأتوا لإنقاذها، قبل استشهادها في 29 كانون الثاني/ يناير 2024.
وفي يوم 10 شباط/ فبراير، الذي عُثر فيه على جثامين هند وأفراد العائلة الآخرين في المركبة وبجانبها، أعلنت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني العثور، ليس بعيدًا عنها، على مسعفَين من طواقمها داخل مركبة الإسعاف التي لبّت نداء هند، وقد قصفها جيش الاحتلال.
وتستذكر الفقيه تلك المكالمة:
"كنت أحاول أن أكون صوت الأمل لها، رغم شعوري بالعجز التام. لم أشعر بمثل هذا الألم من قبل. كنت أركّز مع هند بشكل تام، وأسمع صوت الدبابات وضرب الرصاص والزنانة في السماء… كانت هند ترجف وتبكي وهي تتحدث إليّ".
وتضيف: "لم أتمالك نفسي، كنت أبكي وأنا أتحدث إليها. كانت تقول لي: (بالأمانة تعالي خذيني). حاولت تهدئتها وطمأنتها. كانت تقول إنها خائفة، وأتذكر أنها كانت تقول إن الدبابة تمشي باتجاهي، وكانت تبكي بشدة، وفجأة فصل خط الهاتف… ظننت أنها توفيت مثل إبنة عمها الطفلة ليان التي استشهدت معها".
وتتابع: "حاولت والزملاء الاتصال مجددًا ووجدناها تجيب وأنها لا تزال على قيد الحياة… هنا كانت تطلب ألا أتركها وأن أبقى معها على الخط. وعند حلول المساء، قالت هند إنها تشعر بخوف شديد جراء حلول الظلام، وبقينا نتحدث، وكانت تقول لي إن كل أهلي الموجودين في السيارة معي ناموا ولم تدرك أنهم استشهدوا جميعًا".
وأردفت: "طلبت من هند أن تقرأ صورة الفاتحة، ولعبنا لعبة الغميضة بحلول الظلام لتشجيعها على عدم الخوف من الظلام، ثم انقطع الاتصال، وبقي منقطِعًا 12 يومًا لحين انسحاب قوات الاحتلال من المنطقة، حيث ذهبت الطواقم إلى الموقع على أمل وجود أحياء، فوجدت هند وأفراد عائلتها قد استشهدوا، وكذلك المسعفان أحمد المدهون ويوسف زينو الذين حضرا لإنقاذها".
وعبر فيلمها "صوت هند رجب"، نجحت المخرجة التونسية كوثر بن هنية في إيصال صوت هند وأطفال فلسطين كافة للعالم أجمع.
ويعرض الفيلم الساعات الأخيرة من حياة الطفلة الشهيدة، حيث استعانت المخرجة بالتسجيلات الصوتية الأصلية لمكالمات الاستغاثة.
وكتبت كوثر بن هنية على حسابها في منصة إنستغرام أنها سمعت بمحض الصدفة مقاطع من نداءات الاستغاثة التي أطلقتها الطفلة هند، فسارعت للتواصل مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.
وأضافت: "تحدثت مطولًا مع والدة هند، ومع الأشخاص الذين كانوا على الطرف الآخر من الخط والذين حاولوا مساعدتها. استمعت، بكيت، وكتبت".
وحظي الفيلم بتصفيق متواصل لأكثر من 22 دقيقة عند عرضه الأول ضمن مهرجان البندقية السينمائي الدولي الـ82، وفاز بجائزة الأسد الفضي.
وقالت بن هنية خلال تسلمها الجائزة: "لا يمكن للسينما أن تُعيد هند إلى الحياة وتمحو الفظائع التي ارتُكبت بحقها، لكنها قادرة على حفظ صوتها لأن قصتها ليست لها وحدها، بل هي قصة مأساوية لشعب بأكمله يعاني من إبادة جماعية ترتكبها حكومة الاحتلال الإسرائيلي التي تتصرف بإفلات من العقاب".
وتقول الفقيه: "إن الفيلم يمثل جريمة من مئات الجرائم التي ارتكبها الاحتلال، وهند لم تكن حالة منفردة، بل واحدة من آلاف الأطفال الذين فقدوا حياتهم بلا ذنب في قطاع غزة والضفة الغربية. صوت هند هو رسالة لكل أطفال العالم".
وتضيف: "تجربتي مع هند تركت أثرًا نفسيًا عميقًا، لكنها عزّزت لدي الشعور بالمسؤولية تجاه الأطفال الأبرياء، مؤكدة أن العمل الإنساني الفلسطيني هو رسالة للعالم بأن الإنسانية يمكن أن تصمد رغم كل الدمار والحصار".
وتختم الفقيه: "مش أنا التي كنت مع هند… هند كانت معي ولا تزال حتى اليوم. لا يغيب صوتها عني، يطاردني… أتذكرها ولن أنسى معاناتها وهي تنتظر حتفها برصاص محتل لا يرحم".
بدوره، يقول علقم بعد مشاهدته للفيلم: كان شعورًا مؤثرًا جدًا… خليط بين الحزن والفخر. الفخر أن قصتها وصلت للعالم، والحزن أنها خسرت حياتها… والتصفيق للفيلم كان لكل الشعب الفلسطيني وليس لهند لوحدها".
"قدمت شهادتي وتجربتي الشخصية انطلاقًا من واجبي الإنساني بضرورة مشاركة الحقيقة وإيصالها للعالم. مكالمتي مع هند ستبقى محفورة في قلبي للأبد. صوت الطفلة البريئة هند وقصتها أمانة ومسؤولية يجب أن ننقلها للعالم أجمع" يضيف علقم.
ويشير إلى أن فيلم "صوت هند رجب" يثبت أن كل إنسان له صوت وحلم وقصة. فهند تؤكد أن لنا وجوه وذكريات وعائلات، والفيلم ليس تكريمًا لها فقط، بل رسالة مفعمة بالإنسانية والأمل.
وقالت لجنة تحكيم مهرجان البندقية: الفيلم يوثق لحظة مؤلمة من تاريخ غزة، ويقدم شهادة إنسانية غير مسبوقة على صمود الأطفال والمسعفين".
فيما تؤكد المتحدثة باسم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، نبال فرسخ: على أن "قصة الطفلة هند تجسّد معاناة المدنيين في قطاع غزة، وتحديدًا الأطفال، كما تجسّد الاستهداف الممنهج للعاملين في القطاع الإنساني. هذه المكالمة الأطول في تاريخ الجمعية، ورغم التنسيق المسبق مع الاحتلال لمركبة الإسعاف التي توجهت لإنقاذ هند، إلا أنه استهدف فور وصولها لموقع الحدث، لنفجع بعد 12 يومًا باستشهاد هند وأفراد عائلتها والمسعفين الزميلين يوسف زينو وأحمد المدهون".
وتضيف:
منذ اليوم الأول لحربه على قطاع غزة، تضيف فرسخ، "يستهدف الاحتلال بشكل متعمد طواقم الجمعية ومنشآتها ومستشفياتها، ما أدى إلى استشهاد 54 من طواقمنا، وهم يرتدون شارة الهلال الأحمر التي يفترض أن توفّر لهم الحماية".
وجددت مناشدتها للعالم بضرورة التحرك بشكل فوري وعاجل لتوفير الحماية للمدنيين وطواقم الجمعية وكل العاملين في المجال الإنساني وفق القانون الدولي الإنساني الذي يضربه الاحتلال عرض الحائط.
وتساءلت فرسخ: "جريمة مثل الجريمة التي ارتكبت بحق الطفلة هند رجب وراح ضحيتها مسعفان أثناء محاولتهما إنقاذها وعائلتها مرت دون محاسبة. فكم مسعفًا وكم طبيبًا وكم عاملاً في المجال الإنساني يجب أن يُقتل حتى يتحرك العالم لوقف جرائم الاحتلال بحق الأطباء والمسعفين والشعب الفلسطيني؟"
وبحسب تقارير رسمية فلسطينية، ارتقى منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الشامل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 نحو 20 ألف طفل في قطاع غزة، فيما استشهد نحو 212 طفلًا في الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة.
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى وقوع أكثر من 1,200 انتهاك ضد الأطفال منذ بداية 2025، تشمل القتل والإصابة والاعتقال والتهجير القسري، ما يكشف حجم المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وتجعل من فاجعة استشهاد هند رجب ورواية رنا الفقيه وعمر علقم شهادة حيّة على معاناة لم تتوقف.
ــــ
ع.ف